لا تزال القصة الشاعرة تزدهر وهي ثابتة في المکانة التي وصلت إليها بعد مرورها بمراحل يصعب على أي فن جديد أن يصمد أمامها، فمن طور الاعتراف إلى طور الإخراج والتجريب إلى طور التداول المحلي ثم طور الترجمة ثم طور التدويل، وهي أطوار استهلکت من الوقت ما يجعل قدم هذا الجنس الأدبي الجديد يضرب بجذوره في الأدب العربي المعاصر کجنس استطاع أن يصمد أمام موجات الاستهجان والرفض ما يربو على عقد کامل من الزمان. وإذا نظرنا إلى الأسباب التي جعلت من القصة الشاعرة هذا الطود الشامخ في الأدب العربي المعاصر فسنجدها هي الأسباب نفسها التي جعلت من جميع الأجناس الأدبية علامات فارقة في الأدب وهذه العلامات قد مرت بمراحل وأطوار حتى استقرت في شکلها النهائي وهذا ما قاد برونيتيير إلى تأکيد أن المسائل الأکثر أهمية تتعلق بتحديد شباب الجنس، وضعفه، وأيضاً نضجه بصورة خاصة، أي اللحظة التي يحقق فيها کمال قواه الحيوية، اللحظة التي فيها يتطابق مع الفکرة الداخلية لتعريفه، وعندما يصل إلى الشعور بموضوعه، فإنه يصل في الوقت نفسه، إلى کمال وسائله واتقانها. هذا يعني أن تعريف الأجناس لا يمکن أن يکون إلا جوهرياً: لن نتمکن من فهم تطور جنس معين إلا عبر معرفة "ميزته الأساسية". وهذا ما يقودنا إلى الوقوف على الميزة الأساسية التي جعلت من القصة الشاعرة جنسا يتمايز عن غيره من الأجناس الأدبية المختلفة. إنها رمزية "التبئير"، ولکي نقف على هذه المزية بالدراسة والتدقيق لا بد أن نناقشها من خلال عناصر محددة حتى يسهل على القارئ الاستفادة من هذه المزية ، ولعل دراسة التبئير في القصة الشاعرة يفتح الباب أمام کشف المخبوء خلف عدسات الحروف ويکشف الروابط بين الصور والدلالات في العمل السردي ويجعل من القصة الشاعرة عملا متمکنا أمکن من فنون السرديات ويجعلها بذلک بعيدة کل البعد عن فن الشعر الذي هو مستقل تماما عن آليات السرد . فهذا التحکم في الآليات السردية يرسخ ما ذهب إليه الباحثون خلال المؤتمرات السابقة أن القصة الشاعرة ليست شعرا وإنما هي فن من فنون السرد والشعر معًا . حيث ضربت في کل واحدة منهما بسهم وقد أجنت منه بحول الله مرادها، وآتت أکلها. وها أنا أقدم هذه الدراسة التحليلية للحبکة التبئيرية في القصة الشاعرة وهي خاصية لا تدرس إلا في السرديات، وسوف أتناول هذه الخاصية النقدية والتحليلية من خلال هذه العناصر : أولا : تعريف التبئير . ثانيا : أنواع التبئير . ثالثًا : التبئير في القصة الشاعرة .